أندلس الحضارة والألم: دموع على أطلال المجد الضائع
تخيل معي...
تخيل أن تقف على تلك الربوة الخضراء المطلة على قصر الحمراء، حيث وقف آخر ملوك غرناطة يوماً ما. أن تشعر بالنسيم الرقيق يحمل إليك همسات قرون من الزمن، وأصداء حضارة غيّرت وجه الإنسانية. في كل حجر من تلك القصور الشامخة قصة، وعلى كل جدار من نقوشها المتقنة آية، وكأن الزمن توقف هناك ليخبرنا: "هنا كان العرب يوماً ما، وهنا تركوا بصمتهم التي لا تُمحى".
عندما أضاء العرب ظلمات أوروبا
في الوقت الذي كانت فيه أوروبا غارقة في ظلام الجهل وعصورها المظلمة، كانت قرطبة تتلألأ كجوهرة لا مثيل لها في تاج الحضارة. كانت شوارعها مضاءة في الليل، بينما كانت لندن وباريس تعيشان في عتمة دامسة. كانت مكتباتها تضم مئات الآلاف من المخطوطات، في وقت كانت فيه أعظم مكتبات أوروبا تعدّ كتبها على أصابع اليد.
وفي أروقة جامعة قرطبة، كان طلاب العلم من مختلف بقاع أوروبا يتهافتون لينهلوا من معين العلوم المتدفق. كان الزهراوي يُجري عمليات جراحية معقدة ويخترع أدوات طبية لم تعرفها البشرية من قبل. كان ابن رشد يضع أسس الفلسفة التي ستلهم لاحقاً ثورة التنوير الأوروبية. كان ابن زهر يؤسس لمدرسة طبية فريدة، وابن البيطار يصنّف آلاف النباتات الطبية.
لم تكن الأندلس مجرد مركز للعلوم فحسب، بل كانت واحة للفنون والآداب. في ظل أشجار الرمان والبرتقال في حدائق قصر الحمراء، كان الشعراء ينظمون قصائد الموشحات التي لا تزال تتردد أصداؤها حتى اليوم. وعلى ضفاف نهر الوادي الكبير، كانت أنغام العود الأندلسي تمتزج مع خرير الماء في سيمفونية إنسانية خالدة.
كيف ضاع فردوس العرب؟
لكن هذا الفردوس الأندلسي لم يصمد أمام رياح الفرقة العاتية التي عصفت به. فقد تحولت الأندلس من إمارة واحدة موحدة إلى دويلات متناحرة، كل منها تعادي الأخرى وتتحالف مع أعدائها ضد أشقائها.
تأمل ذلك المشهد المؤلم: ملوك الطوائف يتقاتلون على أقاليم صغيرة، بينما كان الخطر المسيحي يتربص بهم جميعاً من الشمال. بعضهم كان يرسل الجزية إلى ملوك قشتالة وأراغون، وبعضهم الآخر كان يستنجد بهم ضد جاره المسلم!
لقد كانت معادلة السقوط بسيطة:
الفرقة + الخيانة + الضعف = الزوال.
وهكذا توالى سقوط المدن الأندلسية الواحدة تلو الأخرى، حتى لم يبقَ سوى غرناطة، تلك اللؤلؤة الأخيرة في تاج الأندلس، التي صمدت حتى عام 1492، قبل أن يسلمها أبو عبد الله الصغير إلى الملكين الكاثوليكيين.
دمعة على تل الدموع
يروي المؤرخون أن أبا عبد الله، وهو يغادر غرناطة للمرة الأخيرة، التفت إليها من بعيد، من فوق تل يُعرف اليوم باسم "تل الدموع" أو "آه يا زمان"، وأجهش بالبكاء حزناً على ملك ضاع منه. فقالت له أمه عائشة الحرة كلماتها التي سُجلت بحروف من نار في ذاكرة التاريخ:
"ابكِ كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه كالرجال".
هل تتخيل تلك اللحظة؟ الملك الأخير ينظر من بعيد إلى قصر الحمراء، إلى تلك المآذن الشامخة، إلى تلك البساتين الغنّاء، وهو يعلم أنه لن يعود إليها أبداً. هل تتخيل ثقل الدمعة التي انحدرت على خده، وهو يودّع ثمانية قرون من الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس؟
عندما يحتفل الآخرون بسقوطنا
والأكثر إيلاماً من ذلك كله أن ذكرى سقوط الأندلس لا تزال تُحتفل بها في إسبانيا كل عام، من خلال مهرجانات "الموروس والمسيحيين". في مدن مثل ألكوي وفالنسيا وغيرها، يرتدي الإسبان أزياء تمثل "المسلمين المهزومين" و**"المسيحيين المنتصرين"**، ويُعيدون تمثيل مشاهد الاسترداد، وكأنهم يقولون:
"نحن لم ننسَ، وهذا النصر سيظل حاضراً في ذاكرتنا".
وفي الوقت الذي يُحيون فيه هذه الذكرى بكل فخر واعتزاز، نجد أن العالم العربي والإسلامي اليوم غارق في نزاعاته الداخلية، متجاهلاً دروس التاريخ، مكرراً أخطاء الماضي بصورة مأساوية تبعث على الألم والحسرة.
الأندلس تناديكم: هل من معتبر؟
هل نسينا درس الأندلس؟ هل نسينا كيف سقطت حضارة عظيمة بسبب التشرذم والتفرق؟ هل نسينا كيف تحولت قصور الحمراء وقرطبة وإشبيلية من منارات للعلم والحضارة إلى متاحف يزورها السياح ليتعجبوا من إبداع أمة كانت هنا يوماً ما؟
إن صرخة تلك الأم الثكلى على تل الدموع ينبغي أن تظل تدوي في أسماعنا:
"ابكِ كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه كالرجال".
فهل سنبكي على أوطان نضيعها اليوم بنفس الطريقة، أم سنتعلم الدرس أخيراً؟ إن الأندلس ليست مجرد ذكرى تاريخية، بل هي عبرة حية لكل من له قلب وعقل. هي تذكرنا بأن الأمم العظيمة لا تسقط من الخارج إلا عندما تتفكك من الداخل، وأن الحضارات لا تزول إلا عندما تنسى رسالتها وتفقد بوصلتها.
دعوة للبناء من جديد
ولكن درس الأندلس ليس مجرد درس في كيفية السقوط، بل هو أيضاً درس في إمكانية النهوض. فتلك الأمة التي استطاعت أن تبني حضارة عالمية في الأندلس، قادرة - بإذن الله - على استعادة مجدها من جديد، ولكن بشروط:
- الوحدة لا التفرق
- البناء لا الهدم
- العلم لا الجهل
- التسامح لا التعصب
- الإبداع لا التقليد
فإذا كان أجدادنا قد أضاؤوا الأندلس بنور العلم والمعرفة، فلماذا لا نضيء حاضرنا ومستقبلنا بنفس النور؟ وإذا كانوا قد بنوا الحمراء وقرطبة والزهراء، فلماذا لا نبني نحن صروحاً معاصرة للعلم والمعرفة تضاهي ما بنوه؟
إن دموع أبي عبد الله الصغير على تل الدموع يجب أن تتحول إلى عزيمة لا تلين، وإصرار لا يخبو، وإرادة لا تنكسر. فالأندلس ليست مجرد أرض فُقدت، بل هي روح وفكر وحضارة يمكن استعادتها في كل مكان تطأه أقدام أمتنا.
ألا فلنستيقظ من سباتنا، ولنتعلم من دروس الماضي، ولنبنِ مستقبلنا على أسس صلبة من الوحدة والعلم والعمل. فالأندلس تناديكم... فهل من مجيب؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يرجى كتابة تعليقك هنا. نحن نقدر ملاحظاتك! شاركنا رأيك أو استفسارك، وسنكون سعداء بالرد عليك