بن ماء السماء أعظم شعـــراء الأندلس
اسمه ونسبه ولقبه وذريته
هو أبو بكر عبادة بن عبد الله بن محمد بن عبادة بن أفلح بن الحسين بن يحيى بن سعيد بن قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي، ينتمي إلى واحدة من أعرق بيوتات الأنصار التي لها تاريخ طويل في النسب الشريف. يعود نسبه إلى قيس بن سعد بن عبادة، الذي كان أحد أبرز الشخصيات في قبيلة الخزرج في زمن النبي محمد ﷺ، ويُعتبر سيدًا من سادات الخزرج.
اكتسب شهرة واسعة في الأندلس حيث عُرف بلقب "ابن ماء السماء"، وهو لقب يعكس طهارة نسبه ورفعة مكانته بين الناس. هذا اللقب لم يكن مجرد علامة على النسب الشريف، بل كان أيضًا تعبيرًا عن سموّ مكانته الثقافية والفكرية، فقد كان يُعرف بعلوّ همته في الأدب والشعر، مما جعله أحد الأعلام الذين تركوا بصمة في تاريخ الأندلس.
أما عن ذريته، فقد أنجب من زوجته ولدين هما محمد وعبادة، ومن عبادة تحديدًا تفرعت شجرة من نسل الأنصار الشوافع المعابدة، الذين ما زالوا يحملون إرثه ويُعرفون حتى اليوم بهذا اللقب.
شيوخه وتلاميذه
كان ابن ماء السماء على صلة بكبار العلماء والأدباء في عصره، وأخذ عنهم علوم الأدب واللغة، ومن بينهم:
- والده عبد الله بن محمد بن عبادة بن أفلح، الذي كان عالماً وأديباً، فنشأ ابن ماء السماء في بيت يعج بالعلم والأدب.
- أبو بكر الزبيدي، وهو أحد أعلام النحو واللغة في الأندلس، وتتلمذ على يديه في علوم اللغة والأدب.
أما تلاميذه، فقد أخذ عنه الكثيرون، ومن أبرزهم:
- أبو محمد يحيى بن أزهر، الذي روى عنه وأثنى على شاعريته.
- غانم بن الوليد المالقي، الذي تلقى عنه فنون الأدب والشعر.
إنتاجه الأدبي
يُذكر أن ابن ماء السماء قد خلَّف ديوان شعر، ولكن لم يصل إلينا منه إلا القليل. كما يُنسب إليه كتاب بعنوان "أخبار شعراء الأندلس"، وقد وصفه المؤرخ المقري بأنه "كتاب حسن"، إلا أن أياً من فهارس المخطوطات لم تذكر هذا الديوان أو الكتاب.
عصره وسياقه التاريخي
عاش ابن ماء السماء في فترة مضطربة من تاريخ الأندلس، حيث شهد التحولات السياسية الكبرى التي أعقبت سقوط الخلافة الأموية في قرطبة، وبروز ملوك الطوائف الذين استقل كل منهم بمدينة من مدن الأندلس. ومن أبرز هذه الدول:
- الدولة الزيدية في غرناطة (403هـ - 483هـ)
- الدولة الحمودية في قرطبة ومالقة (407هـ - 450هـ)
وقد عاش ابن ماء السماء في ظل حكم بني عامر وبني حمود في قرطبة، ثم شهد الفتن والصراعات التي تفجرت بعد وفاة الخليفة الأموي الحكم المستنصر، وتولي ابنه هشام الحكم وهو طفل لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره، حيث وقعت السلطة فعلياً بيد الحاجب المنصور بن أبي عامر، الذي كان ابن ماء السماء من أبرز شعراء بلاطه.
وقد مدح الحاجب المنصور بقوله:
لنا حاجب جاز المعالي بأسرهافأصبح في أخلاق واحد الخلقفلا يغترر منه الجهول ببشرهفإن هول الرعد في أثر البرق
وتشير المصادر إلى أنه لم يعاصر حكم بني جهور في قرطبة، حيث لم يذكرهم في شعره، مما يرجح أنه تُوفي قبل استيلائهم على الحكم سنة 422هـ.
ما قيل في شعره
حظي ابن ماء السماء بإعجاب النقاد والأدباء في عصره، فعدّوه من فحول الشعراء، وشهدوا له بعلو كعبه في الأدب. فقد قال عنه الحميدي والضبي:
"كان من فحول الشعراء، متقدمًا فيهم مع علمه"
أما ابن بسام، فقد وصفه بقوله:
"كان أبو بكر شيخ الصناعة وإمام الجماعة، سلك إلى الشعر مسلكًا سهلاً"
كما أطلق عليه صاحب الذخيرة لقب:
"شاعر الأندلس ورأس الشعراء في الدولة العامرية"
ورغم أنه كان من أعلام الشعر في عصره، إلا أن ديوانه لم يصل إلينا كاملاً، ولم تذكر فهارس المخطوطات أثرًا له، مما يجعل شعره المتناثر في الكتب مصدرنا الوحيد عنه.
اشتهاره بالتوشيح
يُعد ابن ماء السماء من أوائل الشعراء الذين برعوا في فن التوشيح، وهو لون من الشعر الأندلسي يتميز بجمال الأوزان وتداخل اللغات (العربية والعامية). وقد قال عنه صاحب "الذخيرة":
"هو الذي قَوَّمَ ميلها وسنادها، فكأنها لم تُسمع بالأندلس إلاّ منه، ولا أُخذت إلا عنه"
وكانت موشحاته رقيقة وساحرة، تجذب القلوب بسلاسة ألفاظها وانسيابية أوزانها، مما جعله من رواد هذا الفن في الأندلس.
وفاته واختلاف الروايات
تعددت الروايات حول وفاة ابن ماء السماء، وأهمها:
- أنه تُوفي في شوال سنة 419هـ في مالقة، حيث ذُكر أنه فقد مائة دينار فاغتم لذلك، وكان سببًا في وفاته.
- أنه كان لا يزال حيًا في صفر سنة 421هـ، حيث ذكر ابن حزم أنه شهد البرد الشديد في تلك السنة، وكتب عنه أبياتًا تصف شدته:
يا عَبرةً أُهدِيت لمُعتَبِرِعشيةَ الأربعاءِ من صَفَرِأَقبلنَا اللّهُ بأس مُنتقِمٍفيها وثني بعفو مُقتدرِ
- أن بعض المؤرخين قالوا إنه تُوفي في سنة 422هـ، وهو القول الأرجح.
اللغة والأسلوب
انعكست البيئة الأندلسية المترفة والمتحضرة على أسلوب ابن ماء السماء، فكان شعره يتميز بـ:
- الرقة والسهولة، إذ تجنب الألفاظ الصعبة والتعقيد اللفظي.
- البعد عن الزخرفة المبالغ فيها، مع محافظته على جمال الأسلوب.
- التأثر بالمتنبي في بعض معانيه وأسلوبه، كما في قوله متغزلاً:
ولقد هممتُ به ورُمتُ حرامَهفَحَماني الإجلالُ دون حَلالِهوحَبَبتُه حُبَّ الأكارم رغبةًفي خلقهِ لا رغبةً في مالِه
وهو يشبه قول المتنبي:
وأَغيدٌ يهوى نفسَه كلُ عاقلٍعَفيفٌ، ويهوى جسمَه كل فاسِقِ
موضوعاته الشعرية
تناول ابن ماء السماء عدة أغراض شعرية، كان أبرزها:
1- المدح
مدح ملوك بني حمود وبني عامر، ومن ذلك قوله في مدح الوزير أبي عمر أحمد بن سعيد بن حزم:
يا قمرًا ليلةَ إكمالِهومُغرقي في بحر أفضالِهعبدُ أياديكَ وإحسانِهايسألُك المَنَّ بإيصالِه
2- الزهد والصبر على المصائب
إياك أن تدري يمينُك مايدور على شمالِكواصبر على نَوبِ الزمانِ وإنرمت بك في المهالِك
3- الغزل
ولقد هممتُ به ورُمتُ حرامَهفَحَماني الإجلالُ دون حَلالِه
يظل ابن ماء السماء من أعلام الشعر الأندلسي، الذين جمعوا بين قوة السبك، ورقة المعنى، وبراعة الأسلوب، فكان بحق شاعر الأندلس ورأس فحولها.