حين بُني المسجد من جريد النخل: حكاية الأنصار في العرابة
أما بعد؛ فاعلم أن من معالم البلاد التي لم تندرس رسومها، ولا اندرست علومها، مسجدًا عظيم القدر، رفيع المكانة، هو مسجد عرب العمامرة الأنصار، الكائن بأرض العرابة المدفونة، إحدى قرى مديرية جرجا القديمة، من صعيد مصر الأعلى، مما يلي بلدة البلينا شرقي النيل. وهذه القرية، وإن خف ذكرها على ألسنة العوام، فقد عظمت مكانتها عند من سلف من أهل العلم والديانة، إذ كانت على عهد الدولة القديمة منازل الكهنة وحجاب المعابد، ثم صارت في الإسلام دارًا لجماعات من القبائل العربية النازلة، من جملتهم عرب العمامرة الأنصار، وهم رهطٌ كريم الأصل، طيب المحتد، من ذراري الصحابي الجليل سعد بن عبادة الخزرجي الأنصاري رضي الله عنه، حامل لواء النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ويوم أحد، وسيد الخزرج في المدينة، ومن أهل بيعة العقبة.
وقد استوطن هؤلاء العرب العرابة المدفونة منذ قرون، وكانوا من أهل الصلاح والخير، وحب المساجد والعبادة، فبنوا لهم مسجدًا كان من أوائل المساجد المقامة في تلك الأنحاء، وكان ثانيها تأسيسًا على الصحيح من الأقوال، وقد مضى على عمارته الأولى ما يناهز المائتي عام، بل يزيد.
في أصل التأسيس وكرم الموضع
وكان أول ما ابتني ذلك المسجد على قطعة طيبة من الأرض، منحها طوعًا وكرمًا رجالٌ من أهل الفضل والدين، وهم آل داود وآل شافع، من عرب العمامرة، المتحدرين من صلب شوافع بني محمد، النازلين بأرض أبنوب الحمام من بلاد أسيوط، وهم بدورهم من عرب المعابدة الأنصار، الذين نسبهم محفوظٌ في الدفاتر، ومرويٌ عن الأكابر، بأنهم من نسل قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، ذلك الرجل الذي ولاه أمير المؤمنين على مصر، وكان من أشراف الصحابة، ومن دهاة بني الأنصار.
في صورة البناء القديم، ومثاله الأول
وكان أول ما شيدوا المسجد، على ما بلغنا من الثقات، بناءً متواضع الهيئة، جليل المعنى، إذ أقيم من جذوع النخل اليابسة، وأعواد الجريد، وحصر القش، على نحو ما كان عليه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أول أمره، فكانوا يُصلون فيه جماعة، ويجتمعون فيه عند كل أمر جلل، وفيه يقام الأذان، وترتفع فيه كلمة "لا إله إلا الله" عالية على أصوات البشر، وقد بورك لهم في ذلك، وعم نفعه، ودام ذكره، وموضعه بجوار ديوان آل داود بحري معبد أبيدوس بخمسون متراً.
ثم تتابعت الأيام، وتكاثرت الأعوام، ووسع الله على أهله، فأعادوا بناءه بالطوب اللبن، حتى غدا أثبت بناءً، وأوسع نطاقًا، وأليق بشعائر الصلاة، فجُعل له محراب ومصلى وجدارٌ يقي المصلين حر الشمس وغدرات المطر. وكان من أعظم القائمين على أمر بنائه وتجديده، الشيخ عبد الباسط رمضان عثمان داود، والشيخ مختار عبد العال أحمد حسين داود، وكلاهما من خيار الناس، وأهل الدين والهمة، فقد حفروا بئرًا للماء بجوار المسجد، يرتوي منها المصلون ويتطهرون، وكان ذلك زمن القحط وقلة المياه، فكان البئر بركة لأهل القرية وسُقيا لعابر السبيل.
في إعادة البناء ورفع المئذنة
وفي سنة خمس وستين بعد الثمانمئة والألف من الميلاد (1865م)، أُعيد تشييد المسجد على هيئة أتم، ووجه أكمل، فبني بناءً متينًا بالحجر والطين، وأقيمت له مئذنة عالية، بلغت سبعة وعشرين ذراعًا في الارتفاع، وهي أول منارة أقيمت في النجع البحري من تلك القرية على هذا النحو من العلو، وكانت تطل من جهة الغرب على أرض المعابد القديمة، معبد أبيدوس الفرعوني، الذي كان من أشهر معابد الصعيد. وقد رأت وزارة الداخلية في أيام الخديوي إسماعيل أن تُتخذ المئذنة نقطة مراقبة، لما توفره من إشراف على المنطقة، فجعلوا فيها جنديًا مسلحًا من الشرطة، يحرسها ويتخذ منها برجًا للرصد والملاحظة.
في عمارة المسجد وعوائده الدينية
وكان المسجد على مر الزمان عامرًا بالمصلين، مأهولًا بالذاكرين، مشهودًا له ببركة المحراب والمنبر، يُقام فيه درس العلم، وتُتلى فيه المواعظ، وتُقام فيه الجمع والأعياد. وفي شهر رمضان، يُعمر بالأنوار والأنفاس الطيبة، وتُقام فيه صلوات التراويح والتهجد، وتقام فيه موائد الرحمن وأمسيات الذكر، فيجتمع فيه الكبار والصغار، والرجال والنساء، يشهدون بركة الشهر في بيت من بيوت الله.
وقد تناوب على المنبر فيه أفاضل من أهل العلم والدعوة، من رجال الأزهر الشريف وطلاب العلم في البلينا وما حولها، وكان لبعضهم في القرية دروس ومحافل، تُتلى فيها كتب الفقه والسيرة، ويُروى فيها الحديث الشريف، وكانت أعمدة المسجد تسمع ذكر الله وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم على لسان الخطباء والعلماء.
خاتمة في فضله واستدامة أثره
وبعد؛ فإن هذا المسجد، بما حواه من المعاني، وجمعه من الأحوال، ليُعد من مفاخر عرب العمامرة، ومن دلائل صلاحهم وصدق نسبهم، فقد حافظوا عليه قرنًا بعد قرن، حتى صار له في القلوب مكان، وفي الذاكرة أثر لا يُنسى. فلا غرو أن يُعد من مواريث الأنصار في مصر، وأن يُكتب له الخلود بما قدّمه من علم وعبادة، ومجتمع صالح في بقعة مباركة.
نسأل الله تعالى أن يبارك في هذا المسجد، وفي ذريّة من شاده، وفي روّاده وعمّاره، وأن يجعله من المصابيح المنيرة في صعيد مصر، ومن معاقل الإيمان في أرض الأجداد، وأن يُكتب في صحائفهم ما عمروا به هذا البيت من ذكر وصلاة وقرآن، فإنه نعم المولى ونعم المجيب.
موضوعات ذات صلة :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يرجى كتابة تعليقك هنا. نحن نقدر ملاحظاتك! شاركنا رأيك أو استفسارك، وسنكون سعداء بالرد عليك