يوسف بن تاشفين: بين الزهد والحزم والفتح المبين
بسم الله الرحمن الرحيم
فِي ذِكْرِ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ وفَارِسِ المُلَثَّمِينَ يُوسُفَ بنِ تَاشَفِينَ
فَلْيَعْلَمْ طَالِبُ الحِكْمَةِ وَمُرِيدُ المَعْرِفَةِ أنَّ مِنْ أجَلِّ أمْرِ العَرَبِ وَالعَجَمِ رَجُلاً قَامَ بِأمْرِ المُسْلِمِينَ زَمَانَ ضَعْفِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ، أَلاَ وَهُوَ فَارِسُ الصَّحْرَاءِ وَمُوَحِّدُ المَغْرِبِ وَبَاسِطُ رَايَةِ الإِسْلامِ فِي الأَنْدَلُسِ، الأمِيرُ المُمَجَّدُ يُوسُفَ بْنَ تَاشَفِينَ الصِّنْهَاجِيّ.
وَلَقَدْ أَضْحَى هَذَا الفَارِسُ الهُمَامُ وَارِثَ زِمَامِ المُرَابِطِينَ بَعْدَ أنْ آثَرَهُ ابْنُ عَمِّهِ الأمِيرُ أبُو بَكْرٍ بنُ عُمَرَ اللَّمْتُونِيُّ بِالإمَارَةِ دُونَ نَفْسِهِ، فَصَنَعَ بِيَدَيْهِ مَالَمْ يَصْنَعْهُ أَحَدٌ مِنْ قَبْلِهِ، إذْ أقَامَ مُلْكاً عَظِيماً يَمْتَدُّ مِنْ بِجَايَةَ شَرْقاً إلَى المُحِيطِ الأطْلَسِيِّ غَرْباً، وَمِنَ البَحْرِ المُتَوَسِّطِ شِمَالاً إلَى أرْضِ السُّودَانِ جَنُوباً.
فِي نَسَبِهِ وَمَوْلِدِهِ
هُوَ يُوسُفُ بنُ تَاشَفِينَ بنِ إبْرَاهِيمَ بنِ تُورْفِيتَ بنِ وَارْتَقْطِينَ بنِ مَنْصُورٍ بنِ مَصَالَةَ بنِ أُمَيَّةَ بنِ وَاتَلْمِي بنِ تَامْلِيتَ، رَجُلٌ مِنْ قَبِيلَةِ لَمْتُونَةَ الصِّنْهَاجِيَّةِ المَعْرُوفَةِ بِالشَّرَفِ وَالسِّيَادَةِ. وَكَانَتْ أُمُّهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ سِيرٍ بنِ يَحْيَى بنِ وَجَاجٍ بنِ وَارْتَقْطِينَ، ابْنَةُ عَمِّ أبِيهِ. وَقَدْ رَأَى النُّورَ فِي عَامِ أرْبَعِمِائَةٍ لِلْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ المُبَارَكَةِ، المُوَافِقِ لِعَامِ تِسْعَةٍ وَألْفٍ بَعْدَ مِيلادِ المَسِيحِ.
وَلَمَّا تَوَلَّى إمَارَةَ المُرَابِطِينَ فِي عَامِ سَبْعَةٍ وَخَمْسِينَ وَأرْبَعِمِائَةٍ، سَارَ فِي الأرْضِ يُطْفِئُ نِيرَانَ الفِتْنَةِ وَيُوَحِّدُ قُلُوبَ القَبَائِلِ، وَمَا زَالَ يَقْتَفِي أثَرَ النَّصْرِ وَالفَتْحِ حَتَّى بَلَغَ سَبْتَةَ وَفَتَحَهَا فِي عَامِ سَبْعَةٍ وَسَبْعِينَ وَأرْبَعِمِائَةٍ.
فِي اسْتِنْجَادِ أهْلِ الأنْدَلُسِ بِالمُرَابِطِينَ
وَلَقَدْ كَتَبَ المُتَوَكِّلُ بنُ الأفْطَسِ، صَاحِبُ بَطَلْيُوسَ، رِسَالَةً بَلِيغَةً إلَى ابْنِ تَاشَفِينَ يَسْتَصْرِخُهُ وَيَسْتَنْهِضُ هِمَّتَهُ، وَمِمَّا جَاءَ فِيهَا: «لَمَّا كَانَ نُورُ الهُدَى دَلِيلَكَ وَسَبِيلُ الخَيْرِ سَبِيلَكَ، وَصَحَّ العِلْمُ بِأنَّكَ لِدَوْلَةِ الإِسْلامِ أعَزُّ نَاصِرٍ، وَعَلَى غَزْوِ الشِّرْكِ أقْدَرُ قَادِرٍ، وَجَبَ أنْ تُسْتَدْعَى لِمَا أعْضَلَ الدَّاءُ، وَتُسْتَغَاثَ فِيمَا أحَاطَ الجَزِيرَةَ مِنَ البَلاءِ...» وَتَمَضَّتْ الرِّسَالَةُ تَصِفُ مَا حَلَّ بِالمُسْلِمِينَ مِنْ سَطْوَةِ النَّصَارَى وَتَسَلُّطِهِمْ.
ثُمَّ أرْسَلَ المُعْتَمِدُ ابْنُ عَبَّادٍ كِتَاباً مُمَاثِلاً قَائِلاً: «إلَى حَضْرَةِ الإِمَامِ أمِيرِ المُسْلِمِينَ، إنَّا نَحْنُ العَرَبَ فِي هَذِهِ الأنْدَلُسِ، قَدْ تَلِفَتْ قَبَائِلُنَا وَتَفَرَّقَ جَمْعُنَا، وَتَوَالَى عَلَيْنَا هَذَا العَدُوُّ المُجْرِمُ اللَّعِينُ أذْفَنْشُ...» يَسْتَنْهِضُ المُرَابِطِينَ لِلجِهَادِ وَنُصْرَةِ إخْوَانِهِمْ.
فَلَمَّا اسْتَقْرَأ ابْنُ تَاشَفِينَ الكِتَابَيْنِ وَاسْتَشَارَ أمْرَاءَهُ وَقُوَّادَهُ، عَزَمَ عَلَى عُبُورِ البَحْرِ، مُنَاجِياً رَبَّهُ قَائِلاً: «اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ جَوَازِي هَذَا خَيْرٌ وَصَلاحٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَسَهِّلْ عَلَيَّ جَوَازَ هَذَا البَحْرِ، وَإنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَصَعِّبْهُ عَلَيَّ حَتَّى لا أجُوزَهُ».
وَوَصَلَ ابْنُ تَاشَفِينَ الجَزِيرَةَ الخَضْرَاءَ وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ المُسْلِمُونَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَلَمْ يَبْقَ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ إلاَّ بَادَرَ وَأعَانَ وَخَرَجَ وَأخْرَجَ. وَلَمَّا أشَارَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّادٍ بِالسَّيْرِ إلَى إشْبِيلِيَّةَ لِيَسْتَرِيحَ، أبَى قَائِلاً بِعَزِيمَةٍ صَادِقَةٍ: «إنَّمَا جِئْتُ نَاوِياً جِهَادَ العَدُوِّ، فَحَيْثُمَا كَانَ العَدُوُّ وَجَّهْتُ نَحْوَهُ».
وَلَمَّا بَلَغَ ألْفُونْسُو السَّادِسُ أنْبَاءُ عُبُورِ المُرَابِطِينَ، رَفَعَ الحِصَارَ عَنْ سَرْقُسْطَةَ، وَأرْسَلَ يَسْتَقْدِمُ جُيُوشَهُ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ وَحَدَبٍ، وَحَشَدَ مَا لاَ يُحْصَى مِنَ المُقَاتِلِينَ، حَتَّى بَلَغَ عَدَدُهُمْ مِائَةَ ألْفِ مُقَاتِلٍ، وَسَارَ بِهِمْ لِلِقَاءِ المُسْلِمِينَ.
فِي وَقْعَةِ الزَّلاَّقَةِ العَظِيمَةِ
وَأرْسَلَ يُوسُفُ بنُ تَاشَفِينَ إلَى ألْفُونْسُو مُخَيِّراً إيَّاهُ بَيْنَ الإسْلامِ أوْ دَفْعِ الجِزْيَةِ أوْ الحَرْبِ، عَمَلاً بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَتَبَ إلَيْهِ قَائِلاً: «بَلَغَنَا يَا أذْفَنْشُ أنَّكَ دَعَوْتَ إلَى الاجْتِمَاعِ بِنَا، وَتَمَنَّيْتَ أنْ تَكُونَ لَكَ سُفُنٌ تَعْبُرُ بِهَا إلَيْنَا، فَعَبَرْنَا إلَيْكَ، وَقَدْ جَمَعَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السَّاحَةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، وَسَتَرَى عَاقِبَةَ دُعَائِكَ (وَمَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إلاَّ فِي ضَلالٍ)».
وَاتَّفَقَ الفَرِيقَانِ عَلَى تَحْدِيدِ يَوْمِ الإثْنَيْنِ مَوْعِداً لِلْمَعْرَكَةِ، وَلَكِنَّ ألْفُونْسُو خَانَ العَهْدَ وَهَاجَمَ المُسْلِمِينَ فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَأرْبَعِمِائَةٍ، المُوَافِقَ لِلثَّالِثِ وَالعِشْرِينَ مِنْ أُكْتُوبَرَ عَامَ سِتَّةٍ وَثَمَانِينَ وَألْفٍ مِيلادِيَّةٍ.
وَلَمَّا عَلِمَ المُسْلِمُونَ بِتَحَرُّكِ ألْفُونْسُو، أخْبَرُوا ابْنَ عَبَّادٍ بِأنَّهُمْ سَمِعُوا ألْفُونْسُو يَقُولُ: «ابْنُ عَبَّادٍ مُسْعِرُ هَذِهِ الحُرُوبِ، وَهَؤُلاءِ الصَّحْرَاوِيُّونَ وَإنْ كَانُوا أهْلَ حِفَاظٍ وَذَوُو بَصَائِرَ فِي الحَرْبِ، فَهُمْ غَيْرُ عَارِفِينَ بِهَذِهِ البِلادِ، وَإنَّمَا قَادَهُمْ ابْنُ عَبَّادٍ، فَاقْصِدُوهُ وَاهْجُمُوا عَلَيْهِ وَاصْبِرُوا، فَإنْ انْكَشَفَ لَكُمْ هَانَ عَلَيْكُمْ أمْرُ الصَّحْرَاوِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ».
وَبَادَرَ ألْفُونْسُو بِإرْسَالِ القِسْمِ الأوَّلِ مِنْ جَيْشِهِ بِقِيَادَةِ الكُونْتِ غَارْسِيَا وَالكُونْتِ زُودْرِيكَ لِقِتَالِ المُعْتَمِدِ بنِ عَبَّادٍ قَائِدِ مَعْسَكَرِ الأنْدَلُسِيِّينَ، غَيْرَ أنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا مَحَلَّتَهُ حَتَّى اصْطَدَمُوا بِقُوَّاتِ المُرَابِطِينَ العَشَرَةِ آلافِ فَارِسٍ بِقِيَادَةِ القَائِدِ دَاوُدَ بنِ عَائِشَةَ.
وَلَمْ يَسْتَطِعْ ابْنُ عَائِشَةَ الصُّمُودَ أمَامَ زَحْفِ جَيْشِ قَشْتَالَةَ الضَّخْمِ، وَاضْطُرَّ لِلارْتِدَادِ إلَى خَطِّ دِفَاعِهِ الثَّانِي بَعْدَ خَسَائِرَ فَادِحَةٍ. وَفِي الوَقْتِ ذَاتِهِ، كَانَتْ قُوَّاتُ المُعْتَمِدِ بنِ عَبَّادٍ البَالِغَةُ خَمْسَةَ عَشَرَ ألْفَ مُقَاتِلٍ تَخُوضُ مَعْرَكَةً غَيْرَ مُتَكَافِئَةٍ، مِمَّا أدَّى إلَى تَرَاجُعِ مُقَدِّمَتِهَا وَفِرَارِ بَعْضِ الأمَرَاءِ الأنْدَلُسِيِّينَ إلَى بَطَلْيُوسَ.
وَلَمْ يَبْقَ مِنَ الأنْدَلُسِيِّينَ إلاَّ المُعْتَمِدُ وَفُرْسَانُ إشْبِيلِيَّةَ الذِينَ صَمَدُوا فِي مَوَاقِعِهِمْ، وَأيْقَنَ ألْفُونْسُو بِالنَّصْرِ المُبِينِ، غَيْرَ أنَّ الأمْرَ كَانَ غَيْرَ مَا قَدَّرَ، فَإنَّ جَيْشَ المُرَابِطِينَ بِقِيَادَةِ يُوسُفَ بنِ تَاشَفِينَ كَانَ يُرَابِطُ خَلْفَ أكَمَةٍ عَالِيَةٍ، تَحْجُبُهُ عَنْ أنْظَارِ عَدُوِّهِ، وَلَمْ يَكُنْ قَدِ اشْتَرَكَ فِي المَعْرَكَةِ بَعْدُ.
فَلَمَّا أدْرَكَ ابْنُ تَاشَفِينَ حَرَاجَةَ المَوْقِفِ، أمَدَّ دَاوُدَ بنَ عَائِشَةَ بِكَتِيبَةٍ وَاحِدَةٍ مُكَوَّنَةٍ مِنْ ألْفِ مُقَاتِلٍ يَقُودُهَا أقْوَى قُوَّادِهِ الأمِيرُ سِيرُ بنُ أبِي بَكْرٍ، اسْتَطَاعَتْ أنْ تَنْفُذَ إلَى قَلْبِ جَيْشِ الفِرِنْجَةِ، وَأنْ تَتَّصِلَ بِقُوَّاتِ المُعْتَمِدِ بنِ عَبَّادٍ.
إلاَّ أنَّ ألْفُونْسُو وَاصَلَ ضَغْطَهُ عَلَى قُوَّاتِ دَاوُدَ بنِ عَائِشَةَ، وَوَصَلَ إلَى خِيَامِ المُرَابِطِينَ، وَاقْتَحَمَ الخَنْدَقَ الذِي يَحْمِيهَا، وَظَنَّ القَشْتَالِيُّونَ أنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوا المُرَادَ.
حِينَئِذٍ قَرَّرَ يُوسُفُ بنُ تَاشَفِينَ دُخُولَ المَعْرَكَةِ، وَرَتَّبَ خُطَّةً تَمَثَّلَتْ فِي مُفَاجَأةِ العَدُوِّ مِنْ جِهَةٍ لاَ يَتَوَقَّعُونَهَا، فَتَقَدَّمَ بِقُوَّاتِهِ الاحْتِيَاطِيَّةِ القَوِيَّةِ، قُوَّاتِ النُّخْبَةِ الأرْبَعَةِ آلافِ مُقَاتِلٍ، وَهَاجَمَ مُعَسْكَرَ القَشْتَالِيِّينَ، مُسْتَفِيداً مِنْ هَلَعِ خَيْلِ القَشْتَالِيِّينَ مِنْ إبِلِ ابْنِ تَاشَفِينَ الَّتِي جَلَبَهَا مَعَهُ مِنَ المَغْرِبِ، وَالَّتِي لَمْ يَكُنْ أهْلُ أُورُوبَّا وَلاَ أهْلُ الأنْدَلُسِ رَأوْا مِثْلَهَا قَطُّ.
وَأضْرَمَ ابْنُ تَاشَفِينَ النَّارَ فِي المُعَسْكَرِ وَأحْرَقَهُ، وَقَتَلَ حُمَاتَهُ مِنَ الفُرْسَانِ وَالرِّجَالِ، وَفَرَّ البَاقُونَ مُنْهَزِمِينَ نَحْوَ ألْفُونْسُو. وَلَمَّا عَلِمَ بِمَا حَلَّ بِمُعَسْكَرِهِ وَحَامِيَتِهِ، تَوَقَّفَ عَنْ مُطَارَدَةِ المُعْتَمِدِ بنِ عَبَّادٍ وَجَيْشِ الأنْدَلُسِ وَارْتَدَّ مِنْ فَوْرِهِ لِيُنْقِذَ مَحَلَّتَهُ مِنَ الهَلاكِ.
أدْرَكَ ابْنُ عَبَّادٍ مِنِ انْسِحَابِ ألْفُونْسُو إلَى مُعَسْكَرِهِ أنَّ بَوَادِرَ الهَزِيمَةِ قَدْ بَدَتْ عَلَى القَشْتَالِيِّينَ، فَأمَرَ أصْحَابَهُ بِمُهَاجَمَتِهِمْ، وَحَمَلَ القَائِدُ سِيرُ بنُ أبِي بَكْرٍ بِمَنْ مَعَهُ عَلَى قُوَّاتِ ألْفُونْسُو، وَفِي ذَلِكَ الحِينِ تَرَاجَعَ الجُنْدُ الذِينَ فَرُّوا إلَى بَطَلْيُوسَ فِي بِدَايَةِ الهُجُومِ، وَشَارَكُوا فِي القِتَالِ.
وَأصْبَحَ ألْفُونْسُو وَجَيْشُهُ بَيْنَ مِطْرَقَةِ ابْنِ عَبَّادٍ وَسِنْدَانِ ابْنِ تَاشَفِينَ، وَكَانَتِ الضَّرْبَةُ القَاضِيَةُ الَّتِي أنْهَتِ المَعْرَكَةَ، حِينَ أمَرَ ابْنُ تَاشَفِينَ حَرَسَهُ الخَاصَّ المُكَوَّنَ مِنْ أرْبَعَةِ آلافِ فَارِسٍ بِالنُّزُولِ إلَى قَلْبِ المَعْرَكَةِ، فَاسْتَطَاعَ أحَدُهُمْ الوُصُولَ لألْفُونْسُو، وَطَعَنَهُ فِي فَخِذِهِ، طَعْنَةً نَافِذَةً بَقِيَ يَعْرُجُ مِنْهَا طَوَالَ حَيَاتِهِ.
وَكَانَتِ الشَّمْسُ قَدْ قَارَبَتْ عَلَى المَغِيبِ، فَبَادَرَ ألْفُونْسُو مَعَ قَلِيلٍ مِنْ أصْحَابِهِ وَاعْتَصَمُوا بِتَلٍّ قَرِيبٍ مِنْ مَوْقِعِ المَعْرَكَةِ، ثُمَّ انْسَلَّ تَحْتَ جُنْحِ الظَّلامِ مُنْهَزِماً إلَى قُورِيَةَ.
هَكَذَا انْتَصَرَ ثَلاثُونَ ألْفَ مُسْلِمٍ عَلَى مِائَةِ ألْفِ فِرِنْجِيٍّ قَشْتَالِيٍّ، ثُمَّ وَحَّدَ ابْنُ تَاشَفِينَ الأنْدَلُسَ وَحَكَمَ إمْبِرَاطُورِيَ
فِي وَفَاتِهِ وَمَثْوَاهُ
وَلَمَّا كَانَتِ الحَيَاةُ دَارَ فَنَاءٍ، وَالدُّنْيَا مَرْحَلَةً لِلرَّحِيلِ، جَاءَ اليَقِينُ إِلَى فَارِسِ المُرَابِطِينَ، وَقُدِّرَ أنْ تُطْوَى صَفْحَةُ الحَيَاةِ لِلأمِيرِ يُوسُفَ بنِ تَاشَفِينَ فِي عَامِ خَمْسَةٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ للهِجْرَةِ، بَعْدَ عُمْرٍ حَافِلٍ بِالجِهَادِ وَالإِصْلَاحِ وَتَوْحِيدِ الكَلِمَةِ، حَيْثُ دُفِنَ فِي مَرَاكِشَ، تِلْكَ العَاصِمَةُ الَّتِي بَنَاهَا بِيَدَيْهِ وَجَعَلَهَا مِنَارَةً لِلحَضَارَةِ وَالعِلْمِ.
وَفِي مَمَاتِهِ، بَكَى عَلَيْهِ العَابِدُونَ فِي المَسَاجِدِ، وَذَكَرَهُ الخُطَبَاءُ فِي المَنَابِرِ، وَخَلَّدَتْهُ الكُتُبُ وَالسِّيَرُ وَالأقْلاَمُ، وَرَفَعَ اللهُ ذِكْرَهُ فِي العَالَمِينَ، فَكَانَ مِمَّنْ خَلَدُوا فِي ضَمَائِرِ الأُمَمِ وَدُوِّنَتْ أَسَامِيهِمْ فِي كِتَابِ المَجْدِ وَالعِظَامَةِ.
خَاتِمَةٌ فِي ذِكْرِهِ
فَهَذَا هُوَ يُوسُفُ بنُ تَاشَفِينَ، رَجُلٌ قَامَ لِدِينِ اللهِ وَنَصَرَهُ، وَجَمَعَ الكَلِمَةَ بَعْدَ فُرْقَةٍ، وَأعَادَ لأُمَّةِ الإِسْلامِ مَجْدَهَا بَعْدَ انْكِسَارٍ. قَادَ الجُيُوشَ، وَرَفَعَ الرَّايَةَ، وَدَفَعَ العَدُوَّ، وَرَسَمَ مَعَالِمَ العِزَّةِ فِي قُلُوبِ الأجْيَالِ. فَسَلاَمٌ عَلَيْهِ فِي الأوَّلِينَ، وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ، وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ قَامَ لِرَفْعِ كَلِمَةِ اللهِ، وَيَوْمَ مَاتَ، وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا.
وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يرجى كتابة تعليقك هنا. نحن نقدر ملاحظاتك! شاركنا رأيك أو استفسارك، وسنكون سعداء بالرد عليك