السبت، 27 فبراير 2016

في مدح النسب والأدب: قصة جدي والشاعر الأندلسي عبادة بن ماء السماء

(الراس الكبيرة)


صورة تخيلية لشاعر الأندلس ابو بكر بن عبادة الخزرجي الأنصاري
شاعر الأندلس بن ماء السماء 


كان جدي، رحمه الله، ذو الحكايات العتيقة والذكريات التي لا تمحى من الذاكرة، وكان دائماً عندما يسرد لي نسب عائلتنا العريقة، ينتهي حديثه بهذه الكلمات: "أبو بكر عبادة الراس الكبيرة". وقد كانت هذه الكلمات تثير في قلبي شعوراً عميقاً من الفخر والاعتزاز، وكأنني أشهد أمام عينيَّ، في كل مرة، صورة تاريخية عظيمة لم تُنسَ، حتى وإن انقضت عليها سنوات الزمن.


والراس الكبيرة، كما كان جدي يروي، هو شاعر الأندلس الشهير، ورأس شعراء الدولة العامرية، أبو بكر عبادة بن عبد الله بن محمد بن عبادة بن ماء السماء، ابن أفلح بن الحسين بن يحيى بن سعيد بن قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا النسب العظيم، الذي يرتبط بخالد الذكر الأنصاري الذي سار اسمه في ركاب النبي الكريم، يعكس عراقة الجذور، وشرف السلالة، ويزيده شرفاً بعد شرف.


وقد ذكر الشهاب التلمساني في كتابه "أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض" (2/254) هذا النسب الرفيع، عدا يحيى الذي أضفته من كتاب "التكملة لكتاب الصلة" لابن الأبار (2/235). وقد كان لهذا النسب أثره الواضح في شخصية عبادة التي ما زالت تدرس في كتب الأدب والشعر. فعبادة بن ماء السماء، هذا الشاعر العظيم، سطع اسمه في سماء الأدب الأندلسي وترك بصمته الواضحة في شعر الموشحات، وأصبح أستاذًا في هذا الفن الذي لا يزال يذكره الأدباء والنقاد حتى يومنا هذا.


كان عبادة بن ماء السماء من أعلام الأدب والشعراء المشهورين، وهو الذي أرسى قواعد فن الموشحات الأندلسية وأضفى عليها جمالاً ورقة في الألفاظ والأوضاع، حتى غدا أحد أبرز رواد هذا الفن الفريد. وقد أشار ابن خميس في كتابه "مطلع الأنوار ونزهة البصائر والأبصار" (1/281) إلى أن عبادة كان فحلًا من فحول الشعراء، وعالمًا من أعلام الأدباء، لا يخفى أثره في الأدب الأندلسي. لقد كان له موشحات تُضرب بها الأمثال، وكتابات تُستشهد بها في مجال الأدب والشعر.


ولا شك أن عبادة بن ماء السماء لم يكن شاعرًا فحسب، بل كان عالماً وأديبًا فقيهًا، فقد تولى الخطابة في مساجد الأندلس، وبذلك جمع بين العلم والأدب، فكان نموذجًا نادرًا في عصره. ومن المؤكد أن أثره الأدبي قد تجاوز حدود عصره وأثر في الأدباء من بعده، وقد ذكره المقري في كتابه "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" (3/173) وخصه بذكر خاص في معرض الحديث عن شعراء الأندلس.


من أشهر أبيات شعره التي حفظتها الكتب الأدبية:


"لا تشكون إذا عثر ت إلى صديق سوء حالك
فيريك ألوانا من الإذلال لم تخطر ببالك
إياك أن تدري يمينك ما يدور على شمالك
واصبر على نوب الزمان وإن رمت بك في المهالك
وإلى الذي أغنى وأقنى اضرع وسلم صلاح حالك".

هذه الأبيات، التي تنضح بالحكمة والموعظة، تكشف عن عمق تفكير عبادة ورؤيته للأمور، فقد كان يرى في الصبر والتحمل السبيل إلى نيل الفرج، وأن الرغبة في تحسين الحال لا تكون إلا بالتوجه إلى الله سبحانه وتعالى.


من جانب آخر، تشير المصادر التاريخية إلى أن أسرة عبادة كانت معروفة بالعلم والفضل، فقد ذكر ابن خميس في نفس الكتاب سالف الذكر أن عروة بن أخي عبادة كان فقيهًا وخطيبًا في مدينة مالقة، ما يعكس مدى تأثير هذه الأسرة في المجالات العلمية والدينية. كما أن والد عبادة كان من رواة الحديث، وقد روى عنه عبادة نفسه، مما يضيف مزيدًا من الجلال والمهابة إلى هذه السلالة العريقة.


وفاته:


أما عن وفاة هذا الشاعر العظيم، فقد اختلف المؤرخون في تحديد سنة وفاته، إلا أن الأرجح -كما ذكر الحميدي في كتاب "جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس" (1/293)- هو أن عبادة توفي في شوال سنة (421هـ)، وإن كانت بعض المصادر تذكر أنه توفي في سنة (419هـ) أو (422هـ). ومن المؤكد أن عبادة، الذي عاش حياته في خدمة الأدب والعلم، قد ترك بصمة لا تمحى في تاريخ الأندلس. وقد دفن، رحمه الله، في بربض الندامى في مدينة مالقة، لتظل تلك الأرض الطيبة شاهدة على عبقرية شاعر الأندلس العظيم.

لقد كان جدي، رحمه الله، في سرد روايته عن عبادة بن ماء السماء، يحيي في قلوبنا معاني الفخر والاعتزاز بهذا النسب الكريم، الذي تتشابك فيه خيوط الأدب والدين والتاريخ. ومع كل مرة يذكر فيها "أبو بكر عبادة الراس الكبيرة"، كنا نشعر أننا ننتمي إلى سلالة من العظماء الذين خلّدهم التاريخ بأدبهم وشعرهم وعلمهم، وأننا لسنا سوى امتداد لتلك السلالة الطيبة التي عاشت لتترك أثراً لا يُنسى في العالم العربي والإسلامي.

بقلم دكتور / مختار الديب شافعين الأنصاري 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يرجى كتابة تعليقك هنا. نحن نقدر ملاحظاتك! شاركنا رأيك أو استفسارك، وسنكون سعداء بالرد عليك