في صفحات نادرة من التاريخ، نجد أنفسنا أمام واحدة من أبرز وقائع العدل والشجاعة، التي جرت على يد القائد المصري البارز إبراهيم باشا. في عام 1832م، كان الجيش المصري يواجه تحديات كبيرة على الأرض، وكان في طريقه لملاقاة جيش العدو التركي في معركة حاسمة. لكن هذه المرة، كانت المحاكمة داخل المعسكر العسكري هي ما جذب انتباه الجميع. في هذا النص، نستعرض لكم تفاصيل محاكمة الجندي إسماعيل الهواري الجرجاوي، أحد جنود إبراهيم باشا، الذي اتُهم بقتل جندي مصري في صفوف الجيش. ولكن ماذا وراء هذه القضية؟ وما هي القيم والعادات التي ألقت بظلالها على محاكمة هذا الجندي؟ تابعوا معنا لتتعرفوا على تفاصيل هذه الحكاية التي تمتزج فيها الشجاعة بالعدل والتقاليد.
من هو إبراهيم باشا؟ هو القائد العسكري الشجاع والابن البار لمحمد علي باشا، والذي قاد الحملات العسكرية ضد القوى العثمانية في المنطقة. كان دائمًا يسعى إلى فرض النظام والعدالة داخل جيشه، وعلى الرغم من انتصاراته المتعددة، فإنه لم يتوانَ عن محاسبة المقصرين داخل صفوفه. في هذا السياق، تتكشف أمامنا محاكمة جندي يدعى إسماعيل الهواري الجرجاوي، الذي جاء من صعيد مصر، وكان يحمل في قلبه إرثًا من تقاليد قبيلته، ليتسبب هذا الإرث في إحداث تغييرات كبيرة في سير المعركة القادمة ضد الجيش التركي.
في قلب الليل، حيث تهمس الرياح بين جنبات الخيام، وحيث يرقب الجند ألسنة النار المتراقصة فوق الحطب المتقد، جلس إبراهيم باشا في مجلسه الصارم، تحيط به هالة من المهابة والجلال. كان ضوء المشاعل الخافت يرسم ظلالًا متراقصة على وجوه الجنود المتحلقين، بينما امتزج صمت الليل بصوت نيران التدفئة المتوهجة.
في وسط ذلك المشهد، وقف شاب نحيل، بالكاد يُرى وجهه تحت وهج المشاعل، عيناه تلتمعان بمزيج من الخوف والرجاء. كان إسماعيل الهواري الجرجاوي، جندي من عامة الجيش، يقف أمام القائد العظيم، متأثرًا بوقع اللحظة. لم يكن يدري إن كان الليل سيطوي ساعاته على براءته أم أن القدر قد كتب له مصيرًا آخر.
كل العيون كانت شاخصة إلى هذا المشهد، تنتظر كلمات إبراهيم باشا التي ستحدد مصير الشاب الواقف أمامه. هل سيجد الرحمة في عين القائد؟ أم أن قوانين الحرب لا تعرف الشفقة؟
وإليكم تفريغ نص الحكاية كما جائت في صفحات التاريخ
في الخامس عشر من شهر يوليه (تموز) ١٨٣٢م، دخل إبراهيم باشا حلب الشهداء فأحتلهت بلا قتال، وأعد له السكان استقبالاً حافلاً ومظاهرَ فرحٍ واجتمعوا به. ودخلت المدينة في حظيرة الدولة المصرية، أسوة بأخواتها. وأعاد إبراهيم إليها ميزانَ العدل والإنصاف والنظام، الذي فقدته منذ زمن بعيد.
وأراد القائد أن يأخذ جيشه الباسل قسطاً وافراً من الراحة، استعداداً للمعارك المقبله ، فأصدر بذلك بياناً إلى جنوده، فأعلن لهم أنه يُطلق لهم حريتهم أياماً معدودة، على شرط أن يحترموا الأرواحَ والأعراضَ والأموالَ.
واستغل إبراهيم باشا الفرصةَ للنظر في أمر الجنود الذين خرجوا على النظام، وارتكبوا مخالفاتٍ يُؤاخَذون عليها. فعقد مجلساً من كبار قواده.
وزعماء المتطوعين من أبناء البلاد، تبوأ فيه مقعد الرئاسة ، وطلب إلى قواد الجيش وضباطه أن ييسطوا أمام المجلس ما لديهم من شؤون وشكايات.
— ما أسم هذا الجندى ؟
— إسماعيل الجرجاوي
— والتهمة الموجهة إليه ؟
— القتل
— والقتيل ؟
— جندى مصرى من رجال المدفعية.
— وتفصيل الحادث ؟ وأسباب الاعتداء ؟
— لا نعم ياموالي إلا شيئاً واحداً. وهو أن هذا الجندى قد أنقض على زميله بعد معركة حمص، وأمسك بعنقه ، وخنقه بأسرع من لمح البصر.
— أهو من رجال المدفعية ؟
— كلا . بل من المشأة.
سكت ابراهيم بعد أن أفضى إليه الضابط الشاكي بهذه التفاصيل .
ونظر إلى الجندي المتهم ، وقال له بلهجة المعاتب المؤنب :
— أليس من العار أن يقال عن جندي مصري إنه اغتال رفيقاً له في النصر والجهاد؟
دافع عن نفسك. فأن هذا المجلس بم يصدر قبل الآن حكماً على مذنب ، دون أن يصغي إلى دفاعه ويزن أقواله .
رفع الجندى رأسه ، ونظر إلى إبراهيم ، فإذا يعينيه تدمعان، وإذا به شاحب اللون مختلج الشفتين.
وقال بصوت منبعث من أعاق صدره :
— نعم . انني قاتل يا موالى . لـكن فعلة القتل الى أقدمت عليها. ليست أثماً أستحق من أجله أن ينظر الي الناس نظرهم إلى مجرم سفاح.
__ كلا، بل هي في عرف عشيرتي فضيلة وشارة شرف أُفاخر بها.
__ وأية عشيرة تلك التي يُعتبر فيها القتل فضيلة؟
__ الهوارة يامولاي، فأسماعيل الجرجاوي، الماثل في حضرتك الآن، تنتني إلى تلك القبائل العربية، إلى نزح أجدادها من الصحراء إلى الصَّعَد، حيث طابت لهم الإقامة، فحطوا رحالهم في وادي النيل. لكن تقاليدهم الموروثة ظلت في نفوسهم حيةً مرعيةً محترمة، وقد غرسوها في ذلك الصَّعَيد كما غرسوا فيه أطناب الخيام.
فأدرك إبراهيم أنه أمام رجل من أولئك العربان الذين لا ينامون على ضيم ولا يسكنون عن دمٍ مطاول. فقد يثأر الواحد منهم لقتيلٍ بعد أيامٍ أو شهورٍ أو أعوام. وهذه العادة قد امتزجت بدمائهم فلا سبيل إلى إزاحتها، والأنباء يتوارثونها عن الآباء. والإحجام عن الأخذ بالثأر يعد في نظرهم عارٌ لا عار بعده، وجبناً يستحق من يصم نفسه به أن يوليه القوم ظهورهم امتهاناً واحتقاراً.
فقال إبراهيم:
__ قص عليَّ قصتك يا اسماعيل، وسنرى فيها رأينا.
كان الرجل قد استعاد ثباته ومسح دموعاً خائنةً نفرت من عينيه بالرغم منه، فشبك ذراعيه على صدره وقال:
ــــ قُتِل أبي منذ ثمانية أعوام يا مولاي، وكنت حينذاك في الثالثة عشرة من عمري، ضعيف البنية، مريضاً، لا أدرك للأخذ بالثأر معنى، ولا أقم للتقاليد الموروثة وزناً. وبقيتُ بعد قتل أبي وحيد أمي، التي لم يكن لها في القرية معينٌ ولا نَصير. فجعلت تبث في روحي الأنتقام ، وترعى صحتي بعنايتها، وتسهر على راحتي ونشأتي. فترعرعتُ في كَنَفِها، وكأن الله عز وجل قد أراد أن يستجيب دعاء تلك الوالدة الثكلى.
ويجعل مني أداة للأنتقام من القاتل الأثيم، فكنت استعيد قواي شيئاً فشيئاً، وأشعر مع الأيام بأن واجباً عظيماً قد فرض علي القيام به.
و أدركت بعد حين أن أبناء العشيرة ينظرون الينا – والدتي وأنا – نظرة من ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وخيم عليهم العار، وطبعهم الجبن بطبعه. ولما بلغت العشرين من العمر، خاطبتني أمي قائلة: ( لقد حان الوقت وأذنت الساعة الرهيبة يا بني. إني أعرف القاتل الذي سفك دماء أبيك، وجعلنا سخرية بين الناس وهدفا لازدرائهم. إن القاتل يمرح الآن حراً طليقاً، بينما جثة أبيك المسكين ترقد تحت الرمل، هناك، طعمة للحشرات، دون أن يقوم على القبر '' شاهِد '' ، أو تذبخ عليه ذبيحة!
ولن نستطيع أن تفعل ذلك، إلا إذا انتقمت لأبيك من قاتله، وثأثرت له ثأراً دموياً، يمحو العار الذي يكتنفنا، ويمكننا من النظر إلى الناس وجها لوجه بلا خوف ولا وجل! اذهب يا بني ولا تعد إلا ويدك مخضبة بدم ذلك القاتل الجبان! أما إذا لقيت حتفك، فأنني أقضي بقية عمري هنا، في البكاء والنحيب! ).
هذا ما قالته لي أمي يا مولاي، فأقسمت لها أنني سأثأر لأبي. وأسرعت في طلب الغريم، فعلمت أنه جندي في المدفعية، وأن فرقته مع الجيش الزاحف بقيادتك. قلت في نفسي: (لو أحجمت عن اللحاق به، لافلت من الثأر وضاع علي الانتقام) . ومنذ ذلك الوقت، صحت عزيمتي على التطوع في الجيش، لا حباً بالحرب فقط، حيث أجد السلوى التي أتوق إليها، بل أيضاً سعياً وراء الثأر الذي أنشده، والترضية التي أرغب فيها. لقد حاربت يا مولاي واستبسلت في القتال. سل ضباط جيشك عن فعالي في الميادين، وعما إذا كنت قد تنحيت يوماً عن مواطن الخطر، أو وليت مدبراً في الأوقات العصيبة. لقد قمت بواجبي كجندي. وعندما حان الوقت للقيام بواجبي كأبن بار بأبيه، لم أحجم عن ذلك، بل أنتهزت الفرصة، وقتلت قاتل أبي، وأرويت ظمئي من دمه. بحثت عنه طويلا حتى اهتديت اليه. ولم أشأ أن ألحق به أذى في مستهل المعركة، بل انتظرت الى نهايتها، وتركته يقوم بواجبه بين رفاقه رجال المدفعية. وبعد ما أنتهى كل شيء، وانهزم العدو أمامنا، ودخلنا مدينة حمص منتصرين، وثبت به، وقبضت على عنقه، وانتزعت روحه انتزاعاً. هذه قصتي يا مولاي، لا زيادة فيها ولا نقصان. فحياتي الآن بين يديك . ولك أن تصنع بها ما تشاء، فأنت السيد الأمير المطاع!
*****
تشاور إبراهيم مع قواده وأنصاره. ثم أصدر حكمه على الجندي القاتل المنتقم:
— إن القتل في عرفنا يا اسماعيل جريمة لا تغتفر، أيا كان الداعي إليها؛ وإيا كانت الظروف المحيطة بها. والقاتل يقتل. أمستعد أنت للقاء العقاب؟
— نعم يا مولاي.
— وإرادتك الأخيرة؟
— لم تقم أمي مأتما بعد مصرع ابي. فكل ما أرجوه الآن أن تبعث إليها خبري، فتعلم اني قد رحلت عن هذا العالم بعد أن ثأرت لأبي من قاتله، وتقيم في البيت مأتما، وتضع على قبر الميت شاهداً، وتذبح عليه الذبيحة الأولى، وتخضب الشاهد بدم تلك الذبيحة !
— سأفعل ذلك يا أسماعيل. أما تنفيذ الحكم فيك، فأني أعهد به اليك، لأنني لا أريد أن تموت ميتت المجرمين السفاكين، وإن كنت في نظرى مجرماً سفاكاً. بعد أيام سنلاقي العدو من جديد في الميدان. ينبغي أن تلج القتال، وتخوض غمار المعركة بما عهد فيك من شجاعة وإقدام، وإلا تعود من الميدان حيا! هكذا أرغب اليك أن تكفر عن ذنبك، وتمحو سيئتك. أتعدني بذلك؟
_ أقسم لك يا مولاي أنني سأستشهد في الميدان وسيكون رفافي على ذلك شهوداً.
****
2 ربيع الأول ۱٢٤٨هـ _ ٢٩ يوليو ١٨٣٢م
بيلان .. .. مضيق موحش، تسلكه القوافل بين الاسكندرونة وحلب. وهو معقل منيع وحصن حصين، وممر الغزاة الفاتحين على مر الأجيال . رأت هضبة الشماء جحافلهم، وسمعت صخوره الصماه وقع حوافر خيولهم، منذ أن عرف التاريخ إلى الآن. ففي ذلك المضيق مر الأشوريون والبابليون الفراعنة والفرس والأسكندر والصليبون وإبراهيم يسلك الطريق الذي سلّكه هؤلاء.
ستون الفاً من الاتراك ربضوا في ذلك المعقل الحصين، ومعهم مائه وستون مدفعاً، في أنتظار أبراهيم وجيشه.
لكن نظامهم مختل، وإدارة جيشهم رديئة، والقوة المعنوية معدومة من نفوس الجنود.
وصل إبراهيم قبالة المضيق، جيشه اقل عددا وعدة من جيش خصمه حسين باشا، لكنه يفوقه نظاماً وإدارة وقوة معنوية.
أهمل القائد التركي احتلال بعض الرتفعات الشرفة على السهل، فأستفاد القائد المصري من ذلك الإهمال.
وفي الساعة الثالثة بعد الظهر، دون أن يترك إبراهيم لجيشه الوقت الكافي للراحة، أصدر أمره بالهجوم.
كان حسين باشا قد حشد قواه جميعاً في القلب، وترك جناحيه في حالة ضعف بين، اعتقاداً منه أن عدوه سيهاجم القلب دون الجناحين. وهذا ما تظاهر به إبراهيم.
لكنه شطر جيشه شطرين، قام أحدها بهجوم عنيف على قلب الجيش التركي ، بنيا كان الأخر يلتف حول ذلك الجيش ، فأحاطه بدائرة من حديد ونار ، وقطع عليه خط الرجعة من جهة الاناضول وبعد ساعتين فقط ، تضعضع الجيش الرتكي واضطربت صفوفه ، فضاعف المصريون نيرانهم . وما اقبلت الشمس على المغيب ، حتى كان جنود (السردار أ كرم) ، يولون وجوههم شطر الساحل ، ويفرون من الميدان زرافات ووحداناً ، على أمل ان يصلو الى الاسكندرونة ، ويحتموا بالاسطول القادم اليها من الاستانة.
وخسروا في تلك الموقعة الهائلة خسارة جسيمة ، وتركوا بين إيدى المصريين أكداساً مكدسة من الاسلاب الغنائم.
وفر حسين باشا كغيره من الضباط والجنود . ومنذ ذلك الوقت لم يقف له أحد على أثر . ويقال أن جنوده قد فتكوا به في الطريق ، طمعا في الاستيالاء على ما كان يحمله معه من أموال طائلة.
أما الجيش المنهزم ، فقد تفرق في وهاد الاناضول وبطاحة .
وفي يوم ٣٠ يوليه ( تموز ) ۱۸۳٢م دخل المصريون ثغر الاسكندرونة ، واستولوا على المراكب السبعة التي ارسلها السلطان لنجدة سرداره ! وسير إبراهيم فريقا من جيشه إلى بياس ، حيث فاز بمن التجأ هناك من الأعداء ، وتم له القضاء على الجيش العثماني قضاء كاملاً.
******
دخل الضابط على إبراهيم وقال :
— مولاي . أمرتني أن آتيك خبر إسماعيل الجرجاوي ، بعد معركة بيلان ، وأن أفضي اليك بتفاصيل سلوكه في الميدان.
لقد حارب ذلك الجندى ببسالة لم أعهدها من قبل في جندي سواه . وعندما أصدرت الينا أمرك بمهاجمة المدفعية التركية ، رأيت ذلك الشاب الشجاع يقتحم الصفوف والمعاقل ، والسيف يقطر بيده دماً . وقد سقط صريعاً في المعركه. أنتهى
الخاتمة:
تظل قصة إسماعيل الهواري الجرجاوي واحدة من أبرز الشهادات على كيفية التوفيق بين القيم الشخصية والتقاليد القبلية من جهة، وبين قوانين الجيش والعدالة العسكرية من جهة أخرى. ورغم أن حكم إبراهيم باشا قد حمل في طياته شجاعة في اتخاذ القرار، إلا أنه كان يعكس أيضًا الفهم العميق لواقع الرجال الذين يقودهم، ما جعله يمنح الجندي فرصة للثأر والبراءة في ميدان المعركة.
لكن، يبقى السؤال الذي يطرح نفسه: هل تظل القيم الشخصية والقبلية قادرة على التماشي مع قوانين المجتمع العادل، أم أن الواقع يفرض تحديات قد تجبر الأفراد على التخلي عن تقاليدهم لصالح النظام الأكبر؟ كيف يمكننا، في عصرنا الحالي، أن نوازن بين العادات الشخصية والعدالة في مجتمعاتنا المختلفة؟
لا تنسوا مشاركة المقال مع أصدقائكم وزيارة المدونة لمزيد من المواضيع الشيقة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يرجى كتابة تعليقك هنا. نحن نقدر ملاحظاتك! شاركنا رأيك أو استفسارك، وسنكون سعداء بالرد عليك