حينما تتلاشى الأحلام وتتحول القصور إلى أطلال، وحينما تتبدد أمجاد الأمم في مهب الرياح، تبقى الحكايات شاهدة على قوة الإرادة وصمود الإنسان. هذه هي قصة قبيلة المعابدة ، أحفاد الأندلس الذين انطلقوا في رحلة استثنائية عبر الصحاري المغربية، حاملين معهم إرثهم الثقافي، وعزمهم على البقاء، وذكريات الفردوس المفقود. إنها رحلة المئة عام أو تزيد، حكاية نُسجت بخيوط الألم والأمل، وكُتبت على صفحات الرمال، لتبقى شاهدة على عظمة الماضي وإصرار الحاضر.
نقدم لحضراتكم نبذة عن خروج الأجداد من الفردوس المفقود، الأندلس، إلى وادي النيل، مصر. رحلة المئة عام أو تزيد عبر الصحاري والفيافي المغربية.
كم كنت أتمنى أن أكون كاتبًا روائيًا يستطيع أن يبحر بخياله عبر الزمن ليتأمل ويجسد هذه الحقبة العصيبة على أحفاد الملوك، لرجال كانوا أسياد دولة تتسيد العالم، إلى أن دار الزمان عليها وعليهم. ولكن سأحاول رصدها بأسلوبي العلمي الركيك أدبيًا في التالي:
سقطت غرناطة، آخر ممالك الأندلس، مملكة بني الأحمر الأنصار، عام 1492م، أي منذ حوالي 600 عام، وهرب منها جموع القبائل العربية الأندلسية إلى بلاد المغرب، وكان منهم قبيلة المعابدة، ومنهم بني شافعين من ذرية عبادة بن أبي بكر عبادة بن عبدالله بن محمد بن عبادة بن أفلح الأنصاري من ذرية سيد الخزرج سعد بن عبادة رضي الله عنه. ومعهم خرج البكريون من عرب بني ربيعة من ذرية بكر بن وائل أصحاب جزيرة أونبه وشليطش في آخر زمان الأندلس.
الأعزاء، ولا زمن عزهم وملكهم، حملوا أبنائهم وزوجاتهم على النوق، يتقدمهم الفرسان، ينتقلون من وادي إلى وادي في الصحاري والوديان المغاربية في رحلة لا أظن أنها كانت سهلة.
وكما قال الشاعر الأندلسي أبو البقاء الرندي في رثاء الأندلس، وهو من قبيلة نَفْزة (وهي من قبائل البربر):
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءتـه أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد
ولا يدوم على حال لها شان.
خلال 100 عام أو يزيد، خالطوا وصاهرو فيها قبائل البربر والمغرب مثل قبائل لولاته وزيناته وصنهاجة وكتامة وهوارة، وهي قبائل قوية محاربة، أحبوا الإسلام والعرب والأندلس، ودافعوا عنها في زمن ضعفها، وأسسوا دولًا قوية مثل دولة المرابطين ثم الموحدين ثم المرينية. وبالمصاهرة، انضم البعض إلى المعابدة في رحلتهم. كذلك خالطوا من القبائل العربية القاطنة بالمغرب مثل قبائل بني سليم وبني هلال.
مزيج قوي أصيل انصهر في ركاب قبيلة المعابدة ليكونوا حلف المعابدة الذي دخل مصر مع بداية الدولة العثمانية، التي قامت على أنقاض حقبة المماليك، إلى أن حط بهم الرحال في قرية قديمة من الأعمال الأسيوطية تدعى طهنهور (عرب المعابدة حاليًا) تحت سفح الجبل الشرقي، ليستقر بهم الحال هناك.
مئة عام أو تزيد في بلاد المغرب تركت في المعابدة آثارًا واضحة بالطباع والأسماء والألقاب والتشكيل العرقي. فمثلاً:
1. ميلهم إلى البداوة وحياة الصحراء: رغم استقرارهم في مصر، ظل لدى قبيلة المعابدة شوقٌ إلى حياة البداوة. فقد اختاروا الاستقرار تحت سفح الجبل الشرقي، وهو مكان يجمع بين طبيعة الصحراء ووفرة الأراضي الزراعية. كان هذا الموقع يمثل لهم توازنًا بين الماضي والحاضر، بين حياة البداوة وحياة الاستقرار.
2. استقرار قبيلة المعابدة الأنصار في شمال محافظة أسيوط يتوافق مع المحيط الجغرافي للقبائل القادمة من ليبيا والمغرب العربي، والتي تنتشر بكثرة في محافظات الفيوم وبني سويف والمنيا وشمال أسيوط.
3. الجمع بين الكرم والعصبية: من السمات التي تميز قبيلة المعابدة هي قدرتهم على الجمع بين الطيبة والكرم، وبين العصبية والشجاعة. هذه الصفات التي ورثوها من قبائل المغرب وأبناء عرب الأندلس جعلتهم قادرين على مواجهة التحديات التي واجهوها في مصر. كانوا يعرفون كيف يكرمون ضيوفهم، وكيف يدافعون عن أرضهم وعرضهم بكل شجاعة.
4. قرية المعابدة ليست مجرد تجمع سكاني، بل هي شاهد حي على حكاية تاريخية تمتد جذورها إلى الهجرة الكبرى التي أعقبت سقوط الأندلس. بدأت القصة من الأندلس، ومرت ببلاد المغرب العربي – المغرب، الجزائر، تونس، وليبيا – قبل أن تستقر في وادي النيل، حيث تشكل حلف المعابدة الأندلسي العربي المغربي، الذي استقر في طهنهور ليحولها إلى ما يُعرف اليوم بـ"عرب المعابدة".
تضم القرية قبيلة شوافع المعابدة الأنصار، والسعايدة الأنصار الذين يعود نسبهم إلى الصحابي الجليل قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنه، ويرتبطون بوشائج النسب مع بني الأحمر، ملوك غرناطة وآخر حكام الأندلس. إلى جانبهم، توجد عائلة الطوالب البكريين من بني ربيعة، الذين ينحدرون من حكام جزيرة أونبة وشليطش في الأندلس. كما تضم القرية عائلة المرابطين، أحفاد الدولة المرابطية التي أسست إمبراطورية امتدت من المغرب الأقصى إلى الأندلس.
ومن بين العائلات البارزة أيضًا عائلة الهواورة، التي تحمل نسبًا مغربيًا عريقًا وتاريخًا يمتد عبر بلاد المغرب العربي إلى مصر. بجانبهم، توجد عائلة الطحاوية الهنادي من بني سليم، الذين اشتهروا بتغريبتهم الهلالية وبطولاتهم في بلاد المغرب العربي بعد هجرتهم من مصر. كما يظهر نسب بني سليم في عائلات أخرى داخل حلف المعابدة، كما تتزين القرية بالسادة العباسيين، أحفاد الأمير محمد بن جعفر بن حسن من سليمان المستكفي، الذين تركوا بصمة واضحة من خلال عائلات الخرابزة والبريشية، ولهم أمارة بني العباس في الجزائر. إلى جانبهم، تضم القرية عائلات عربية أصيلة أخرى منهم الفقايرة، آل الميرة،آل الشيخ،الغراب، العفايشة، الحرابوة، البهانسة، البحيري، الشامة، السالمي، الخمايسة،آل عبد العواض، الكساسبة، والخطبه ، ما يجعلها نموذجًا حيًا للتنوع والاندماج والتلاحم الذي يعكس تاريخًا عريقا.
5. الألقاب والعادات: من العادات التي أخذها المعابدة من المغرب كانت استبدال لقب "الجد" بلقب "السيد".فيلقب الحفيد جده ب( سيدي فلان ) وهو لقب مغربي الأصل.
هذا التغيير في الألقاب كان يعكس تأثير الثقافة المغربية عليهم، وهو نوع من التقدير والاحترام للأجداد. هذا اللقب أصبح جزءًا من الهوية الجديدة للقبيلة.
6. يظهر موروث هذه الرحلة في بعض الأسماء، فمثلًا اسم "الجلفي" كما في آل الجلفي عبادة شافعين المعبدي الأنصاري المنتشرين بالمراغة وشندويل والفيوم، مأخوذ من اسم ولاية الجلفة الجزائرية، إحدى أهم مدن الجزائرية.
7. من العادات القديمة ذات الموروث الأندلسي والمغربي، والتي تتميز بها نساء شوافع المعابدة الأنصار من القدم، ولا تزال تحتفظ بها البعض، هي "البردة": عبارة عن رداء أسود تلتحف به النساء لا يظهر سوى عين واحدة، وهي تشبه إلى حد كبير لباس نساء قرية البشير الأندلسية الواقعة بين مدينتي قادش وطريفة على الشريط الساحلي المقابل لعدوة المغرب. ولا فرق بينه وبين "الحايك" المعروف في الشمال المغربي وفي الجزائر وتونس إلا في لونه الأسود، كما يُطلق عليه عند آل شافعين الأنصاري في قرية شندويل البلد بصعيد مصر اسم "الشجة" إلى الآن.
8. التفاف بعض أبناء عمومتنا حول ولي الله الشريف محمد الزلتيمي البرقي، ابن الشريف عبد السلام الفيتوري البرقي، ليكونوا معه في رحلته وركابه منذ حوالي 350 عامًا، إلى أن استقر بأحدى بقاع نجع حمادي وأسس قرية زليتن، وهم الآن أكبر عائلاتها. والشريف الزلتيمي برقي من الديار الليبية، يحمل لغة وموروث أهل المغرب.
9. نقول "أولاد شافع" كما هي عادة القبائل المغاربية الأصل، ولا نقول "بني شافع" كما هي عادة قبائل العرب القادمة من الجزيرة العربية مباشرة إلى مصر، كما في قبيلة بني النجار الأنصارية.
10. رغم عودة نطق كلمة "شافع" إلى أصلها الصحيح في اللغة العربية، إلا أن من شوافع المعابدة من احتفظ بالموروث الأندلسي المغربي بإضافة الياء والنون إلى الأسماء، ليستمر كما كان شافعين الأندلس.
11. المعروف أيضًا في مؤلفات المسلمين الذين كتبوا عن الأندلس أن أهل هذه البلاد لا يهمزون، إذ لا ينطقون الهمزة، بحيث يلفظون "البئر" "البِيرْ"، ولا يقولون "نأكل" بل "ناكل"، كما في لهجة قبيلة المعابدة.
12. كما كان الأندلسيون غير آبهين ببعض صيغ النحو والصرف، وتجاوزت هذه "العدوى" حدود بلادهم، إذ يستخدم أهل المعابدة بصورة عامة صيغة المتكلم الجمع بدلاً من المفرد عند الحديث عن أنفسهم كأفراد، إذ يقولون: "نروح" و"نلعب" وليس "أروح" و"ألعب"، و"نرتاح" بدلاً من "أرتاح"، و"نمشي" بدلاً من "أمشي".
13. من عادات لهجتنا، والتي هي نتاج أندلسي، هي استعمال حرف الجر "في" بإلصاقه مباشرة بالاسم المجرور وحذف يائه، كأن نقول: "فالبلد" وليس "في البلد"، أو "فالبيت" بدلاً من "في البيت".
14. نقول "فين" اختصارًا لـ "في أين"، فنقول "فين كنت" بدلاً من "فأين كنت"، و"منين" التي نختصر بها السؤال "من أين"، وهي من لهجة أهل غرناطة وأرياف الأندلس.
الختام: رحلة لا تنتهي
ورغم مرور مئات السنين، لا تزال قبيلة المعابدة تحتفظ بجزء كبير من موروثاتها القديمة. فالأرض التي احتضنتهم، والرحلة التي خاضوها، لا تزال حية في قلوبهم. تلك الرحلة التي بدأت من غرناطة، مرورًا بالمغرب، ثم مصر، كانت أكثر من مجرد رحلة جغرافية، بل كانت رحلة عبر الزمن، عبر التاريخ، وعبر الهوية.
تظل قصتهم، قصة عرب المعابدة، واحدة من أروع القصص التي ترويها الأرض. قصة لا تنتهي، بل تتجدد مع كل جيل. هي رحلة مستمرة عبر الزمان والمكان، رحلة لا يمكن أن تموت، بل تظل حية في ذاكرة كل من سمع بها.
هذه بعض الاستدلالات الهامة المستوحاة من تاريخنا، والتي تشكل ملامح شخصياتنا ولهجتنا وطباعنا، وإلى مزيد من المعلومات الهامة مستقبلاً بإذن الله تعالى. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يرجى كتابة تعليقك هنا. نحن نقدر ملاحظاتك! شاركنا رأيك أو استفسارك، وسنكون سعداء بالرد عليك